تحليل

خطاب الكراهية:بين آليات التجييش وادمان الحروب

05:01 ص

الأحد 05 سبتمبر 2021

يعتقد البعض ان خطابات الكراهية الحالية هى نتاج لمساحات الحرية الواسعة بعد الثورة التى كفلت حرية تعبير يتم إساءة إستخدامها من البعض، بينما يعتقد البعض الاخر انها نتاج طبيعى لما حدث من اتفاقات سلام يشعر البعض انها تهدد مكتسبات او امتيازات سلطوية تاريخية. ولكن هناك وجه اخر لخطابات الكراهية الموجودة حاليا وهى الحفاظ على حالة " الاستنفار" والتجييش والقبض على ما يعتقد البعض انه " زناد القضية". وان اختلفت او تناقضت تلك القضايا بين دعاة دولة النهر ودعاة الانفصالات المختلفة، الا ان المحصلة النهائية لخطابات الكراهية هى إستمرار التجييش والحشد وكسب مزيد من الشرعية لوجود الجيوش المختلفة وحالة الحرب القائمة او المحتملة بشكل دائم.

فالسودانيين كمجموعات مختلفة ومتنوعة لم تتمكن بعد من صناعة أسس تحالفات مبنية على المصالح السلمية المشتركة، بل ان تحالفات القوى الاجتماعية سواء قبلية او ثقافية او سياسية مبنية على الاتفاق على العدو المشترك وليس على المصلحة المشتركة. فى ذات الوقت فإن شرعية القوى السياسية والسلطوية المسيطرة على السلطة تاريخيا مبنية على صناعة الحروب وليس على بناء الدولة او تعميرها او صناعة توافق بين مكوناتها. فالحرب هى الحالة الأكثر ديمومة التى عايشتها الدولة السودانية الحديثة منذ المهدية. حيث لم تنجح الدولة السودانية فى صناعة ما يكفى من توافق على أسس أخرى غير الحروب وتحالفات الاعداء المشتركين. وظلت تلك العداءات دوما داخلية بين المكونات السودانية نفسها. فلم يتثنى للسودانيين الشجاعة للتوحد للحرب ضد دولة اجنبية، بما فى ذلك الدول التى استعمرت السودان.

فقد كانت الصراعات الداخلية اكثر أهمية للقوى السياسية السودانية من تحرير الوطن فانقسمت حركة الاستقلال بشكل مثير للدهشة بين تأييد والوقوع تحت أحضان إحدى الدولتين المستعمرتين للسودان. فانضوى البعض تحت لواء الوحدة مع مصر، بينما رفع الطرف الآخر شعار السودنة تحت رعاية وتحالف مع الطرف الإنجليزى بما يناهض الطرف المائل تجاه الاستعمار المصرى. وأنه لمشهد عجيب أيضا حين يؤيد كبار القوى السياسية السودانية المستعمر فى قمع ا ول ثورة وطنية ضده وهى ثورة اللواء الأبيض عبر مذكرات مساندة للمستعمر من قيادات دينية وقبلية وقتها وسياسية لاحقا ، كان ذلك أيضا في إطار تفضيل استمرار الصراع الداخلى، "السودانى سودانى" على التوحد لأجل تحرير الوطن من المستعمر الأجنبي . الأمر الذى يشكك بشكل جاد فى وجود مفهوم الوطن من الأساس لدى القوى السياسية المسيطرة بشكل تاريخي فى السودان.

ان البعض ينسى عمدا ان السودان ظل يعيش فى حالة حروب أهلية منذ ما قبل الاستقلال. فلم تتوقف الدولة السودانية عن قتال بعض مواطنيها قط منذ انشائها. وان هذا لعمرى لخطب جلل يستحق الدراسة والتوقف عنده. فالحرب بين السودانيين ظلت هى عنوان الواقع السياسي ،وكل ما يجيده الساسة السودانين هو صناعة وإدارة الحروب، فهذه تجربتهم السياسية التاريخية الوحيدة. ولذلك فإنهم استخدموا الحرب او احتمالية الحرب دوما كالية الحشد السياسي الرئيسية وان تخفت احيانا تحت ثنايا خطابات دينية فى حالة الكيزان والذين لجأوا لفقه الجهاد لتبرير الحشد للحرب تحت شعارات دينية ،أو خطابات ثورية او تحررية فى حالة الحركات المسلحة وبعض القوى السياسية الأخرى. ولكن الخطاب العام للحشد السياسي ظل دوما خاضعا للحروب كعامل رئيس فى صناعة والحفاظ على السلطة فى السودان.

والان تكتمل كثير من الدوائر التاريخية حيث انه ولاول مرة يتم التوافق بشكل واسع على وقف الحروب بين جميع المكونات نسبة لحالة الاستنزاف والإرهاق التى أصابت كل الجيوش بعد عقود من الحروب، ولكن لهذا السبب بالضبط، وعندما توشك الحروب ان تضع اوزارها، ينشأ خطاب التجييش الاحتياطى مرتدياً ثياب خطاب الكراهية ومستخدما السوشيال ميديا لغسل الايدى من هذا الخطاب من قبل المستفيدين منه الحقيقين. فالابواق التى تنعق وحروب الديكة التى نراها فى السوشيال ميديا هى جزء من مشهد موازى هدفه ابقاء حماس المشاهدين فى الفواصل بين الشوطين . حيث تخشي القوى التى ادمنت الحروب ان تفقد سيطرتها على مؤيديها ان لم تقدم لهم وجبات من الكراهية تجاه عدو ما تجعلهم مستعدين دوما الى طاعة قادتهم استعدادا لحرب قادمة. إن نيل القيادة السياسية بصناعة الحروب او اوهام الحروب ، بدلا عن القيادة بصناعة رؤية لبناء الوطن شكلت التقاليد الأساسية للعمل السياسي السودانى، الأمر الذى يصعب تجاوزه عند التفكير فى مخرج آمن نحو تحول ديمقراطى فى السودان او تداول سلمى للسلطة .

وحتى القوى التى توصف بأنها قوى مدنية ،فانها تظل تقترن فى تاريخها باللجوء الى الجيش لحسم الفوضي السياسية عبر الانقلابات العسكرية بدءا من لجوء عبدالله خليل الى عبود وانتهاءا بلجوء قحت الى حميدتى والبرهان وقوش فى ثورة ديسمبر حتى أصبح التحالف الحالى مع المجلس العسكرى احد اكثر التحالفات السياسية مصداقية تاريخيا فى التعبير عن علاقة القوى السياسية المدنية والعسكرية عبر تاريخ السودان، فهى علاقة حلفاء حميمين وليست علاقة أعداء كما يعتقد البعض. وعلى ذات المنوال فإن القوى السياسية المدنية ظلت تستخدم الحروب فى الأطراف دوما كوسيلة تحالف بينها وخطاب ترهيب المجتمعات خارج نطاق النزاعات لضمان تاييدهم وتخويفهم المستمر من الاخر المختلف وتصويره على أنه عدو محتمل بشكل غير مباشر وعبر آليات التمييز والاستبعاد ،حتى أدى ذلك الى خطابات الهوية الاحادية للدولة وغيرها من آليات الحشد والفرز الاجتماعى والسياسي التى استخدمت من قبل القوى السياسية عبر التاريخ الحديث للدولة السودانية. حيث شكلت تلك الخطابات السياسية الشرعية الصامتة او المعلنة احيانا التى منحت الجيش السودانى سلطة شن حروب طاحنة لعقود طويلة لم تتوقف حتى إبان الفترات الديمقراطية، لذلك فليس هناك من بين القوى السياسية السودانية المسلحة او المدنية من لديه ايدى نظيفة خالية من الدماء. فاصحاب الياقات البيضاء هم الذين يمنحون الشرعية لاصحاب الكاكى لسفك الدماء، عبر صناعة المبررات المختلفة لخلق الحروب او استمرارها، فليس من المنصف لوم قادة الجيوش لوحدهم عن ما جرى ويجرى في ساحات النزاعات فى مختلف مناطق السودان وعبر تاريخه الحديث.

ومن جانب آخر فى الحركات المقاومة المسلحة رغم عدالة قضيتها وشرعيتها، ولكنها وقعت أيضا فى فخ إدمان الحروب، وعجزت عم خلق رؤى سياسية بديلة، حيث تطبعت على الحرب كحالة معتادة فلم تنشأ لدى القادة قدرات إدراة سياسية بعيدا عن احتمالات الحروب الدائمة. ولذلك فإن خطاب الكراهية الموجود الان هو لاعب رئيس فى توازن القوى السياسية الحاكمة. ومؤشر خطير أيضا على مدى الخلل الهيكلى فى الممارسة السياسية السودانية.

ويظل خطاب الكراهية أيضا جزء من مظاهر التعبير عن غياب آليات العدالة الانتقالية الشاملة التى يمكن ان تستوعب غضب جماهير واسعة من فترات طويلة من النزاعات، وأيضا صعوبة تأقلم البعض خارج نطاق مناطق النزاعات مع ترتيبات توزيع السلطة والثروة فى اطار العدالة الانتقالية. لذلك فإن غياب العدالة الانتقالية من ميزان القوى السياسي الحالى بشكل كبير، هو أيضا إحدى مظاهر انعدام الرؤية خارج خبرات الحروب وادارتها لدى كثير من القوى السياسية السودانية. لذلك فإن خطاب الكراهية الحالى لا سحب النظر اليه كحالات فردية ولكنه جزء من مظاهر الأمراض السياسية المزمنة لدى القوى السياسية السودانية.

من

اخر الاخبار